غزوة الخندق
غزوة الخندق (وتُسمى أيضاً غزوة الأحزاب) هي غزوة وقعت في شهر شوال من العام الخامس من الهجرة (الموافق مارس 627م) بين المسلمين بقيادة رسول الإسلام محمد، والأحزاب الذين هم مجموعة من القبائل العربية المختلفة التي اجتمعت لغزو المدينة المنورة والقضاء على المسلمين والدولة الإسلامية. سبب غزوة الخندق هو أن يهود بني النضير نقضوا عهدهم مع الرسولِ محمدٍ وحاولوا قتله، فوجَّه إليهم جيشَه فحاصرهم حتى استسلموا، ثم أخرجهم من ديارهم. ونتيجةً لذلك، همَّ يهود بني النضير بالانتقام من المسلمين، فبدأوا بتحريض القبائل العربية على غزو المدينة المنورة، فاستجاب لهم من العرب: قبيلة قريش وحلفاؤها: كنانة (الأحابيش)، وقبيلة غطفان (فزارة وبنو مرة وأشجع) وحلفاؤها بنو أسد وسليم وغيرُها، وقد سُمُّوا بالأحزاب، ثم انضم إليهم يهودُ بني قريظة الذين كان بينهم وبين المسلمين عهدٌ وميثاقٌ.
تصدَّى الرسولُ محمدٌ والمسلمون للأحزاب، وذلك عن طريق حفر خندقٍ شمالَ المدينة المنورة لمنع الأحزاب من دخولها، ولمَّا وصل الأحزابُ حدود المدينة المنورة عجزوا عن دخولها، فضربوا حصاراً عليها دام ثلاثة أسابيع، وأدى هذا الحصار إلى تعرِّض المسلمين للأذى والمشقة والجوع. وانتهت غزوة الخندق بانسحاب الأحزاب، وذلك بسبب تعرضهم للريح الباردة الشديدة، ويؤمن المسلمون أن انتصارهم في غزوة الخندق كان لأن الله تعالى زلزل أبدانَ الأحزاب وقلوبَهم، وشتت جمعَهم بالخلاف، وألقى الرعبَ في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده. وبعد انتهاء المعركة، أمر الرسولُ محمدٌ أصحابَه بالتوجه إلى بني قريظة، فحاصروهم حتى استسلموا، فقام الرسولُ محمدٌ بتحكيم سعد بن معاذ فيهم، فحكم بقتلهم وتفريق نسائهم وأبنائهم عبيدًا بين المسلمين، فأمر الرسولُ محمدٌ بتنفيذ الحكم.
محتويات [أخف]
1 قبل الغزوة
1.1 غزوة بني النضير
1.2 أسباب غزوة الخندق
2 استعداد المسلمين للمعركة
2.1 حفر الخندق
2.2 تأمين الذراري والنساء والصبيان
3 بعض معجزات الرسول محمد أثناء حفر الخندق
4 بدء غزوة الخندق وفرض الحصار على المسلمين
4.1 نقض بني قريظة عهدهم مع المسلمين
4.2 مفاوضة غطفان
4.3 اختلاف الأحلاف وتفككهم
4.4 دعاء المسلمين بالنصر
4.5 انهزام الأحزاب وانتصار المسلمين
4.6 الشعر والهجاء بين الفريقين
4.7 أول مستشفى إسلامي حربي
4.8 القتلى في غزوة الخندق
4.8.1 القتلى من المسلمين
4.8.2 القتلى من الأحزاب
5 بعد غزوة الخندق
5.1 نتائج غزوة الخندق
5.2 غزوة بني قريظة
5.2.1 مقتل كعب بن أسد رئيس بني قريظة
6 المصادر
7 وصلات خارجية
قبل الغزوة[عدل]
غزوة بني النضير[عدل]
Crystal Clear app kdict.png مقالة مفصلة: غزوة بني النضير
وقعت غزوة بني النضير بعد غزوة أحد، في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة بين المسلمين ويهود بني النضير،[1] وذلك للأسباب التالية:
نَقْض بني النضير عهودهم مع المسلمين، والتي تشترط عليهم ألا يؤووا عدوًا للمسلمين، وقد فعلوا ذلك في غزوة السويق، حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة بعد غزوة بدر، نذر ألا يمس رأسَه ماءٌ من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مئتي راكب قاصدًا المدينة، قام سيد بني النضير "سلام بن مشكم" بالوقوف معه وضيافته، وأبطن له خبر الناس، أي دلَّه على مواطن ضعف المسلمين.[2]
محاولة اغتيال الرسولِ محمدٍ، إذ خرج الرسولُ في نفر من أصحابه عن طريق قباء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامريين الهوازنيين، وهما رجلان من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري الكناني فقتلهما وهو لا يعلم أنهما كانا عند الرسول محمد، وذلك في أول يوم من رجب، فقالت قريش: «قتلهما في الشهر الحرام».[3] فخرج الرسولُ إلى ديار بني النضير يستعينهم في ديتيهما، وذلك تنفيذاً للعهد الذي كان بين النبي محمد وبين بني النضير حول أداء الديات، وإقرارًا لما كان يقوم بين بني النضير وبين بني عامر بن صعصعة من عقود وأحلاف. واستقبل بنو النضير الرسولَ محمداً بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، ويبدو أنهم اتفقوا على إلقاء صخرة عليه، من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسولَ أدرك مقاصد بني النضير، ويؤمن المسلمون أن الخبر جاءه من السماء بما عزم عليه بنو النضير من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل.[4][5]
وردّاً على ذلك، صمم الرسولُ محمدٌ على محاربة بني النضير الذين نقضوا العهد والمواثيق معه، وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم،[6] وأنذر بني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام، وأرسل محمداً بن مسلمة إليهم، وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: إن رسول الله Mohamed peace be upon him.svg أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم مما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رُئي بعد منكم ضربت عنقه»،[7][8] ولم يجدوا جوابًا يردون به سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة: «يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس»، فقال محمد: «تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود»، فقالوا: «نتحمل»، فمكثوا أياماً يعدون العدة للرحيل.[9]
بسم الله الرحمن الرحيم
Allah1.png
هذه المقالة جزء من سلسلة:
الإسلام
العقائد في الإسلام[أظهر]
أركان الإسلام[أظهر]
مصادر التشريع الإسلامي[أظهر]
شخصيات محورية[أظهر]
الفرق[أظهر]
التاريخ والجغرافيا[أظهر]
أعياد ومُناسبات[أظهر]
الإسلام في العالم[أظهر]
انظر أيضًا[أظهر]
وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول مَن يقول لهم: «اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم،[10] ولا تخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إلى قومي ألفين، فأقيموا، فهم يدخلون معكم حصونكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم»،[11] فعادت لليهود بعضُ ثقتهم، وتشجَّعَ كبيرُهم حيي بن أخطب وأرسل جدي بن أخطب إلى الرسولِ محمدٍ يقول له: «إنا لن نريم -أي لن نبرح- دارنا فاصنع ما بدا لك»، فكبَّر الرسولُ وكبَّر المسلمون معه، وقال: «حاربت يهود».[12]
وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فتحركت جيوش المسلمين صوبهم، واستعمل النبي محمد على المدينة ابن أم مكتوم وسار إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار.[13] وضُرب عليهم الحصارُ لمدة خمس عشرة ليلة. والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر الرسولُ بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:[13]
وهان على سراة بني لؤي حريقٌ بالبويرة مستطيرُ
وأدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم، ودب اليأسُ والرعبُ في قلوبهم، وخاصة بعد أن أخلف عبد الله بن أبي بن سلول وعده بنصرهم، وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيرًا أو يدفعوا عنهم شرًا، فأرسلوا إلى الرسولِ محمد يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم، فوافقهم الرسولُ محمد على ذلك وقال لهم: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة»، والحلقة هي الدروع والسلاح، فرضوا بذلك.[14]
ونقض اليهودُ سُقُفَ بيوتهم وعُمْدَها وجدرانَها لكي لا ينتفع منها المسلمون، وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة، حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوءًا ذهبًا وفضة، وكان يقول: «هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل».[15] وحملوا أمتعتهم على ستمئة بعير، وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم، حتى لا يشمت بهم المسلمون، فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى أذرعات الشام.[16][17] وأسلم منهم رجلان فقط: يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.[13]
وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة محمد بن مسلمة بأمر من الرسولِ محمدٍ.[18][19] وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فلما نزلوها دان لهم أهلها.[20]
ونزلت في غزوة بني النضير سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود، وفضحت مسلك المنافقين، وبينت أحكام الفيء، وأثنت على المهاجرين والأنصار، وبينت جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصت المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة، ثم خُتمت بالثناء على الله تعالى وبيان أسمائه وصفاته.[13] وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر: "قل: سورة النضير".[21][22][23]
أسباب غزوة الخندق[عدل]
منظر عام للمدينة المنورة قديمًا
بعد أن خرج يهود بني النضير من المدينة إلى خيبر، خرجوا وهم يحملون معهم أحقادهم على المسلمين، فما أن استقروا بخيبر حتى أخذوا يرسمون الخطط للانتقام من المسلمين، فاتفقت كلمتهم على التوجه إلى القبائل العربية المختلفة لتحريضها على حرب المسلمين، وكونوا لهذا الغرض وفدًا يتكون من: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبي عمار.[24]
وخرج الوفد الذي يتكون من عشرين رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول محمدٍ، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش التي قد أخلفت وعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذ سمعتها والبر بكلمتها.[13] ثم خرج هذا الوفد إلى غطفان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً، فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك، فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب المشركين على الرسول محمدٍ ودعوته والمسلمين.[13]
وقد وافقت قريش على غزو المدينة لأنها شعرت بمرارة الحصار الاقتصادي الذي ضربه عليها المسلمون، ووافقت غطفان طمعًا في خيرات المدينة وفي السلب والنهب.[1] وقد قال وفد اليهود لمشركي مكة: «إن دينكم خيرٌ من دين محمد، وأنتم أولى بالحق منه»،[25] وفي ذلك نزلت الآيات: Ra bracket.png أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً Aya-51.png أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا Aya-52.png La bracket.png.[26]
وقد أبرم الوفد اليهودي مع زعماء أعراب غطفان اتفاقيةً ضد المسلمين، وكان أهم بنود هذا الاتفاق هو:
أن تكون قوة غطفان في جيش الاتحاد هذا: ستة آلاف مقاتل.
أن يدفع اليهود لقبائل غطفان (مقابل ذلك) كل تمر خيبر لسنة واحدة.[27]
وفعلاً، خرجت من الجنوب قريش من كنانة في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان صخر بن حرب حتى نزلوا وادي العقيق، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران وهم سبعمئة يقودهم سفيان بن عبد شمس، وخرجت من الشرق بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد، وقبائل غطفان: بنو فزارة، يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مرة وهم أربعمئة يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع وهم أربعمئة يقودهم مسعر بن رخيلة، ونزلت غطفان بجانب أحد. ثم اتجهت هذه الأحزاب، وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه. وبعد أيام، تجمَّعَ حول المدينة جيش يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل،[13][28][29] أربعة آلاف من قريش وأحلافها كنانة، وستة آلاف من غطفان وأحلافها بني أسد وسليم.[1]
استعداد المسلمين للمعركة[عدل]
[أظهر] ع ن ت
غزوات الرسول
[أظهر] ع ن ت
سرايا الرسول
ذهب جمهور أهل السير والمغازي إلى أن غزوة الأحزاب كانت في شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة،[30] وقيل إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري،[31] وقيل إن هزيمة الأحزاب كانت يوم الأربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة،[32] وقيل إنها وقعت سنة أربع من الهجرة.[33] ويرى العلماء أن القائلين بأنها وقعت سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وهو مخالف لما عليه الجمهور مِن جَعْل التاريخ من المحرم سنة الهجرة.[30]
حفر الخندق[عدل]
كانت استخبارات الدولة الإسلامية على حذر تام من أعدائهم؛ لذا فقد كانوا يتتبعون أخبار الأحزاب، ويرصدون تحركاتهم، ويتابعون حركة الوفد اليهودي منذ خرج من خيبر في اتجاه مكة، وكانوا على علم تام بكل ما يجري بين الوفد اليهودي وبين قريش أولاً، ثم غطفان ثانيًا.[1]
وبمجرد حصول المدينة على هذه المعلومات عن العدو شرع الرسولُ محمدٌ في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، ودعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار، بحث فيه معهم هذا الموقف.[34] فأشار الصحابي سلمان الفارسي على الرسولِ محمدٍ بحفر خندق، قال سلمان: «يا رسول الله، إنا إذا كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تخندق؟»، فأَعجب رأيُ سلمان المسلمين.[35][36] وقال المهاجرون يوم الخندق: «سلمان منا»، وقالت الأنصار: «سلمان منا»، فقال الرسولُ محمدٌ: «سلمان منا أهل البيت».[37]
وعندما استقر الرأي بعد المشاورة على حفر الخندق، ذهب الرسولُ هو وبعضُ أصحابه لتحديد مكانه، واختار للمسلمين مكانًا تتوافر فيه الحمايةُ للجيش. فقد ركب الرسولُ محمدٌ فرسًا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعًا ينزله، فكان أعجبَ المنازل إليه أن يجعل "جبل سلع" خلف ظهره، ويخندق من "المذاد" إلى "ذباب" (أكمة صغيرة في المدينة يفصل بينها وبين جبل سلع ثنية الوداع) إلى "راتج" (حصن من حصون المدينة لأناس من اليهود)، وقد استفاد الرسولُ من مناعة جبل سلع (وهو أشهر جبال المدينة)[38] في حماية ظهور الصحابة.[1]
رسم توضيحي يبين غزوة الخندق
كان اختيار تلك المواقع موفقًا؛ لأن شمال المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو، والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها، أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة، تقف عقبةً أمام أي هجوم يقوم به الأعداء، فكانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت "حرة واقم" من جهة الشرق، و"حرة الوبرة" من جهة الغرب، تقومان مقام حصن طبيعي، وكانت آطام بني قريظة في الجنوب الشرقي كفيلة بتأمين ظهر المسلمين، إذ كان بين الرسولِ محمدٍ وبني قريظة عهدٌ ألا يمالئوا عليه أحداً، ولا يناصروا عدوًا ضده.[39]
لقد كانت خطة الرسولِ محمدٍ في الخندق متطورةً ومتقدمةً بالنسبة للعرب،[1] إذ لم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم، بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريبًا عنهم، وبهذا يكون الرسولُ محمدٌ هو أولَ من استعمل الخندق في الحروب في تاريخ العرب والمسلمين، فقد كان هذا الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام، وأبطل خطتهم التي رسموها.[1]
اقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجو باردًا، والريح شديدة والحالة المعيشية صعبة، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة، ويضاف إلى ذلك العملُ المضني، حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم، وينقلون التراب على ظهورهم، ولا شك في أن هذا الظرف بطبيعة الحال يحتاج إلى قدر كبير من الحزم والجد. وكانت هناك مجموعة من الأنصار تقوم بحراسة الرسولِ محمدٍ في كل ليلة، وعلى رأسهم عباد بن بشر، وقد قسَّم الرسولُ أعمالَ حفر الخندق بين الصحابة، كل أربعين ذراعًا لعشرة من الصحابة، ووكل بكل جانب جماعة يحفرون فيه.[1]
وقد شارك الرسولُ الصحابةَ جوعَهم، قال أبو طلحة: «شكونا إلى رسول الله Mohamed peace be upon him.svg الجوعَ فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله Mohamed peace be upon him.svg عن حجرين». كما شارك الرسولُ الصحابةَ في حفر الخندق، وكان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب، ويقول:
والله لولا الله مـا اهتدينا ولا تصـدقـنا ولا صـليـنا
فأنزلن سكيـنـة عـلـيـنا وثبت الأقـدام إن لاقيـنا
إن الأعادي قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبيـنا
ثم يمد صوته بآخرها.[40]
وكان الصحابة يقولون يوم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدًا على الإسلام ما بقينا أبدًا
وقيل "على الجهاد"، والنبي يقول:[41]
اللهم إن الخير خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
لقد كان لهذا التبسط والمرح في ذلك الوقت أثره في التخفيف عن الصحابة مما يعانونه نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها، كما كان له أثره في بعث الهمة والنشاط بإنجاز العمل الذي كلفوا بإتمامه قبل وصول عدوهم.[42]
وكان الصحابة يستأذنون الرسولَ محمداً في الانصراف إذا عرضت لهم ضرورة، فيذهبون لقضاء حوائجهم، ثم يرجعون إلى ما كانوا فيه من العمل، فأنزل الله تعالى فيهم: Ra bracket.png إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ Aya-62.png La bracket.png.[43] ومعنى الآية الكريمة: إذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لقضاء بعض حاجاتهم التي تعرض لهم فأذَن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها، واستغفر لهم،[44] فكان الرسولُ محمد بالخَيار، إن شاء أذن للمستأذن إذا رأى ذلك ضرورة له، ولم ير فيه مضرة على الجماعة، فكان يأذن أو يمنع حسب ما تقتضيه المصلحة ويقتضيه مقام الحال.[45] كما قسم الرسولُ أصحابه إلى مجموعات للحراسة ومقاومة كل من يريد أن يخترق الخندق.[1]
وواصل المسلمون عملهم في حفر الخندق، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل جيش الأحزاب إلى أسوار المدينة.[46]
تأمين الذراري والنساء والصبيان[عدل]
لما علم الرسولُ محمدٌ بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق، أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة، حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء،[1] وقد فعل الرسولُ محمد ذلك لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين؛ لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال.[47]
إذن، وضع الرسولُ محمدٌ النساء والأطفال في حصن فارع قوي حمايةً لهم؛ لأن المسلمين كانوا في شغل عن حمايتهم، لمواجهتهم جيوش الأحزاب، فعندما نقض يهود بني قريظة عهدهم مع الرسول، أرسلت بنو قريظة يهوديًّا ليستطلع وضع الحصن الذي فيه نساءُ المسلمين وأطفالُهم، فأبصرته صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول محمد، فأخذت عمودًا ونزلت من الحصن فضربته بالعمود فقتلته، فكان هذا الفعل من صفية رادعًا لليهود من التحرش بهذا الحصن الذي ليس فيه إلا النساء والأطفال، حيث ظنت يهود بني قريظة أنه يحميه الجيشُ الإسلاميُّ، أو أن فيه على الأقل من يدافع عنه من الرجال.[48]